الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم، لعلمهم بأن مراسله قادر على ما يريد، لكنه سبحانه أغناه عن ذلك بتأييده بالأعوان، من الملائكة والإنس والجان، حتى اضمحل أمرهم، وعيل صبرهم، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية، وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه، روى البغوي من طريق ابن المبارك، والترمذي- وقال: حسن عن أبي أمامة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» وروي عن طريق أبي الشيخ عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبيًا عبدًا وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيًا عبدًا قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا ويقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» وسيأتي في سورة سبأ عند {وأرسلنا له عين القطر} [سبأ: 12] ما يتم هذا، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة- وإن كانت في أسلوب الشرط إلى ما فتح عليه صلى الله عليه وسلم من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خيبر ووادي القرى، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي، وفي القصور بالمضارع، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز، فإن اللائق بمقام الملوك أن تكون إشاراتهم أوسع من عباراتهم، فإذا ذكروا شيئًا ممكنًا على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم، والممكن في كلامهم كالواجب، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء! وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى أعلى الناس فهمًا، وأغزرهم علمًا، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق.روى البيهقي في دلال النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة أربعين ذراعًا، وكان سلمان الفارسي رضى الله عنه رجلًا قويًا، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت» فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة، قال عمرو: فكسرت حديدنا.وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة، فأخبر فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعًا، وكسرها في الثالثة، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل برقة تكبيرة، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان للقوم: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم! يا رسول الله! بأبينا أنت وأمنا! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر، لانرى شيئًا غير ذلك، فقال: أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها.فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله! موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون {هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا} [الأحزاب: 22] وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فافتتح أصحابه رضى الله عنهم جميع ما ذكر، وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر، وقد كان صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك، لأن وعد الله لا خلف فيه، بل غائبه أعظم من حاضره غيره، وموعودة أوثق من ناجز سواه، فأعطى صلى الله عليه وسلم تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم، وأعطى خريم بن أوس- الذي يقال له: شويل- كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح على أيام الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة، نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عنه وفتحه على أصحابه، تشريفًا لهم بإزالة أهل الشرك عنه، وإنعامًا عليهم به تصديقًا لوعده، وإكرامًا لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصر أوليائه وتكثير أمته، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين {ما لهذا الرسول} [الفرقان: 7] إلى آخره، وقد كان قادرًا على أن يقويه بجميع ذلك قبل موته، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر، لأن نصره على خلاف ما ينصر به أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة، ولا أموال وافرة، ولا ملوك معينة قاهرة، بل كانت الملوك عليه، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه، بيد أصحابه من بعده وأحبابه.ولما ثبت بما أثبت لنفسه الشريفة من الكمال أنه لا مانع من إيجاد ما ساقوه مساق التوبيخ إلا عدم المشيئة، لا عجز من الجاعل ولا هوان بالمجعول له، تسلية له صلى الله عليه وسلم في أسلوب مشير بأنه يعطيه ذلك، سلاه أيضًا بأن ما نسبوه إليه لا يعتقدون حقيقته، فأضرب عن كلامهم قائلًا: {بل} أي لا تظن أنهم كذبوا بما جئت به لأنهم يعتقدون فيك كذبًا وافتراء للقرآن، أو نقصانًا لأكلك الطعام ومشيك في الأسواق، أو في شيء من أحوالك، أو لا تظن أنهم يكذبون بقدرته تعالى على ما ذكر أنه إن شاء جعله لك بل، أو المعنى: دع التفكر فيما قالوه من هذا فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل {كذبوا بالساعة} أي بقدرتنا عليها، واستقر ذلك في أنفسهم دهورًا طويلة، وأخذوه خلفًا عن سلف، وأشرب قلوبهم حب هذا الحطام الفاني، وتقيدت أوهامهم بهذه الظواهر كالبهائم، فعسر انفكاكهم عن ذلك بما جاءهم من البيان الذي لا يشكون فيه، فاجترؤوا لذلك على العناد لعدم الخوف من أهوال يوم القيامة كما قال تعالى عن أهل الكتاب.{وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران: 24] {وأعتدنا} أي والحال أنا أعتدنا أي هيأنا بما لنا من العظمة {لمن كذب} من هؤلاء وغيرهم {بالساعة سعيرًا} أي نارًا شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضى الله عنهم {إذا رأتهم} أي إذا كانت بحيث يمكن أن يروها وتراهم لو كانت مبصرة {من مكان بعيد} وهو أقصى ما يمكن رؤيتها منه وهم يساقون إليها {سمعوا لها} أي خاصة {تغيظًا} أي صوتًا في غليانها وفورانها كصوت المتغيظ في تحرقه ونكارته إذا غلا صدره من الغضب {وزفيرًا} أي صوتًا يدل على تناهي الغضب، وأصله صوت يسمع من الجوف.ولما وصف ملاقاتها لهم، وصف إلقاءهم فيها قال: {وإذا ألقوا} أي طرحوا طرح إهانة فجعلوا بأيسر أمر ملاقين {منها} أي النار {مكانًا} ووصفه بقوله: {ضيقًا} زيادة في فظاعتها {مقرنين} بأيسر أمر، أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل، أو حبال المسد، أو مع من أغواهم من الشياطين، والتقرين: جمع شيء إلى شيء في قرن وهو الحبل {دعوا هنالك} أي في ذلك الموضع البغيض البعيد عن الرفق {ثبورًا} أي هلاكًا عظيمًا فيقولون: يا ثبوراه! لأنه لا منادم لهم غيره، وليس بحضرة أحد منهم سواه؛ قال ابن جرير: وأصل الثبر في كلام العرب الانصراف عن الشيء.فالمعنى حينئذ: دعوا انصرافهم عن الجنة إلى النار الذي تسببوا فيه بانصرافهم عن الإيمان إلى الكفر، فلم يكن لهم سمير إلا استحضارهم لذلك تأسفًا وتندمًا، فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله تعالى: {لا تدعوا اليوم} أيها الكفار {ثبورًا واحدًا} لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب الهلاك {وادعوا ثبورًا كثيرًا} لا يحصره الإحصاء ولا آخر له، فإنكم وقعتم فيما يوجب ذلك لأن أنواع الهلاك لا تبارحكم أصلًا ولكنه لا موت. اهـ.
|